26 - أكتوبر - 2025

   

ماذا قدم الاقتصاد الإسلامي لمنع الاحتكار وحماية الأسواق؟

الواقع الاقتصادي الدولي يؤكد كل يوم حاجته الماسة إلى قيم وأخلاقيات الاقتصاد الإسلامي، ومنع كل صور الاستغلال والفساد التي يعاني منها الاقتصاد العالمي الآن.. فما بين احتكار مذموم لشركات الأدوية وإنتاج اللقاحات والأدوية التي تحتاجها البشرية كلها في مواجهة أمراض وبائية خطيرة في مقدمتها الآن «جائحة كورونا» وتطوراتها الأخطر في تاريخ البشرية.. واحتكار للسلع والخدمات عن طريق شركات التجارة الإلكترونية الكبرى مثل شركة «أمازون» الأمريكية العالمية، والتي حققت أرباحاً طائلة خلال أزمة كوفيد-19، وشركة «أبل» التي كشفت مؤخراً عن أرباحها التى بلغت 3000 دولار في كل ثانية!!

لذلك.. ليس غريباً أن تقرر هيئة مكافحة الاحتكار الإيطالية مؤخراً تغريم شركة «أمازون» ملياراً و300 مليون دولار بسبب فرض هيمنتها على سوق التجارة الإلكترونية في إيطاليا، وقد سبقتها فرنسا وبعض دول الاتحاد الأوروبي في فرض غرامات على شركات دولية منها «أمازون وأبل» بسبب ممارسات احتكارية أضرت بالسوق وألحقت خسائر كبيرة بشركات محلية عجزت عن منافسة تلك الشركات. 

ما يعاني منه السوق العالمي الآن من احتكار واستغلال من جانب شركات دولية يضر بمصالح شركات وطنية في كل دول العالم، ويضر أكثر بالمستهلكين الذين تفرض عليهم الشركات المحتكرة الأسعار التي تحقق طموحاتها الربحية.. وهو ما يفرض  تساؤلات مهمة عن كيفية مواجهة احتكار واستغلال تلك الشركات.. وهنا يأتي دور الاقتصاد الإسلامي بمنهجه المتوازن في حماية الأسواق، من خلال قيمه وأخلاقياته التي يفتقدها العالم.

حول هذه القضية المهمة ونتائجها السلبية على الدول والأفراد، التقت «الاقتصاد الإسلامي» نخبة من أساتذة الاقتصاد وعلماء الشريعة الإسلامية للوقوف على آرائهم.. وفيما يلي خلاصة ما قالوه عن دور المنهج الإسلامي المتوازن والعادل في ضبط الأسواق وحمايتها من تلك الممارسات.


واقع‭ ‬مؤلم

  في البداية تؤكد الدكتورة يمن الحماقي، أستاذ الاقتصاد بجامعة عين شمس المصرية، أن احتكار الشركات الدولية لأسواق العالم واقع مؤسف نعاني منه منذ عقود، وهذا الاحتكار لا تعاني منه اقتصادات الدول النامية فحسب، بل تعاني منه اقتصادات الدول الصناعية الكبرى أيضاً مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، وغيرها من دول العالم المتقدم، بدليل أن بعض هذه الدول تشكو من احتكار «أمازون» وغيرها من الشركات المهيمنة على سوق التجارة الإلكترونية في العالم، فدول مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها اضطرت إلى توقيع عقوبات مالية على شركتي «أمازون» و»أبل» الأمريكيتين، لقيامهما بممارسات احتكارية واضحة أضرت باقتصاداات تلك الدول، والأضرار هنا لها مظاهر متعددة، من بينها الإضرار بشركات الإنتاج والتسوق الوطنية، مما يؤثر على حجم العمالة، ويؤثر أيضاً على حجم العائد الاقتصادي لهذه الشركات المتضررة، كما يؤثر أكثر على المستهلك الذي لا توجد أمامه بدائل أو اختيارات أخرى، ويضطر إلى التعامل مع هذه الشركات المهيمنة؛ بما تفرضه من أسعار تحقق لها طموحاتها السعرية، ولا تخلو من الاستغلال.

د‭. ‬يمن‭ ‬الحماقي‭: ‬احتكار‭ ‬الشركات‭ ‬العالمية‭ ‬لأسواق‭ ‬العالم‭ ‬واقع‭ ‬يجب‭ ‬أن‭ ‬يواجه‭ ‬بتعاون‭ ‬دولي

وتؤكد أستاذة الاقتصاد أن هناك ممارسات احتكارية لشركات دولية لا مجال لمواجهة احتكارها أو الحد منه إلا بوجود بدائل منافسة، وتلك الشركات للأسف غير موجودة الآن، فشركة مثل «أبل» المتخصصة في إنتاج البرامج الإلكترونية لا يوجد منافس قوي لها على مستوى العالم، ولذلك فإن الحد من احتكارها يتطلب وجود بدائل قوية، يمكن أن تتحقق في المستقبل بتعاون عدة دول، وهنا تكون الشركات متعددة الجنسيات أقل هيمنة من شركة واحدة يمتلكها شخص هنا أو هناك.

وتضيف قائلة: ما ينشر عن أرباح الشركات الكبرى التي تمارس الآن أبشع صور الاحتكار أمر يؤكد الهيمنة على السوق العالمي في هذا المجال.. ورغم وجود منظمات رسمية لمواجهة الممارسات الاحتكارية حول العالم، إلا أن الاحتكار يفرض نفسه الآن على أسواق العالم – كما تؤكد الدكتورة الحماقي – فالتشريعات التي تحظر الاحتكار والمنظمات الرسمية وغير الرسمية التي تواجهه، لم تنجح حتى الآن في تحقيق أهدافها، سواء بالحد من الاحتكار أو منع المحتكرين من تعظيم الأرباح بطريقة تمثل استغلالاً للمجتمع، ومنع الآخرين من دخول الأسواق والمنافسة، وهو ما يمثل في الواقع طريقة غير مشروعة للتربح.

عمل‭ ‬غير‭ ‬أخلاقي

وتشدد أستاذة الاقتصاد على ضرورة نشر ثقافة مواجهة الاحتكار، والتحقير من شأن من يمارسه، سواء أكانت شركة دولية أو وطنية، وتقول: بالفعل الاحتكار لسلعة أو خدمة عمل غير أخلاقي، ويتنافى مع قواعد التجارة الحرة التي تعزز المنافسة، ولهذا يتبرأ أي رجل أعمال شريف من اتهامه بالاحتكار، وتبتعد أية شركة محترمة عن هذه الوصمة، وهذا في حد ذاته شعور جيد، ناتج عن التحقير من شأن من يمارس الاحتكار، والنظر إليه على أنه مستغل، ولا يطبق قواعد وأخلاقيات الإنتاج أو التجارة النظيفة.. ولذلك لا يجوز تبرير الاحتكار أو التهوين من شأنه من خلال بعض الاقتصاديين.

توحش‭ ‬يجب‭ ‬مواجهته

وهنا تواجه الشركات التكنولوجية العملاقة تهماً بالاحتكار، لأنها وفقاً لمقاييس الاحتكار بلغت حداً لا يشوبه القلق فقط، بل يشوبه الخوف من المستقبل.. فالأرقام التي نشرتها مؤخراً مؤسسات رصد اقتصادية غربية تؤكد توحش الشركات الدولية التي تمارس الاحتكار – إنتاجاً وتوزيعاً – وعلى سبيل المثال بلغت القيمة السوقية للشركات السبع الكبار مجتمعة، وهي: (فيسبوك، أبل، أمازون، نتفليكس، جوجل، مايكروسوفت، وتسلا) 9,6 تريليون دولار، أي ضعف الاقتصاد الياباني، ثالث أكبر اقتصاد في العالم.. كما حققت أمازون وحدها خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة من عام 2020 مبيعات بقيمة 100 مليار دولار، وارتفعت أسهمها العام الماضي 62 في المائة.. أما «أبل» فزادت قيمة السهم 70 في المائة، وكانت عائدات شركة «ألفابت» 162 مليار دولار، أي أكثر من الناتج القومي الإجمالي للمجر، وإجمالي أرباح شركة أبل 67 مليار دولار، أي ما يوازي إنفاق المملكة المتحدة، خامس أكبر اقتصاد في العالم، على الدفاع والنقل.

كل هذه المعطيات وغيرها، تؤكد توحش الاحتكار كممارسة اقتصادية مذمومة.

لكن هل هذا المفهوم أصبح موجوداً من الناحية القانونية بحيث تتم معاقبة هذه الشركات على هذه النتائج؟

لقد رفضت محكمة فيدرالية أمريكية الدعوى المقدمة من لجنة التجارة الاتحادية، تتهم فيها عملاق شبكات التواصل الاجتماعي «فيسبوك» بالاحتكار والاستحواذ على الشركات الناشئة، والسبب هو فشل اللجنة في إثبات أن الأرقام التي تحقق مفهوم الاحتكار اقتصادياً نتجت فعلاً عن تصرفات احتكارية، وعن استغلال للموقع المهيمن، وأنها تمنع الشركات الناشئة من الدخول والبقاء في السوق.

لقد أكدت تقارير اقتصادية أن الشركات العملاقة منعت شركات جديدة من الدخول في ساحتها الاقتصادية ومشاركتها في الأرباح، حيث كانت هذه الشركات العملاقة تستغل نفوذها لمنع مثل هذا الدخول بطريقة غير مباشرة، مثل الاستحواذ الشرس، ومثل تشجيع سَن قوانين تمنحها بعض الامتيازات، كما يتم سَن تشريعات تعزز الملكية الفكرية لهذه الشركات التي تستطيع شراء كل الحقوق والاستئثار بها.

نجاح‭ ‬أم‭ ‬هيمنة؟

الغريب أن بعض الاقتصاديين يحاولون تبرير هيمنة الشركات الدولية الكبرى المتهمة بالاحتكار، حيث يردد هؤلاء نغمة مختلفة من بعض الخبراء ترى أن ما حققته هذه الشركات حدث «بفعل النجاح المتواصل لها»، بل ويرون أن ذلك يحمل في طياته كثيراً من الإيجابيات والمنافع للاقتصاد العالمي وللمستهلكين، وبأن الطلب على منتجات هذه الشركات ليس بفعل الاحتكار، بل بقوة الطلب على المنتجات والخدمات ذات الجودة، فهذه الشركات أكثر فهماً للواقع الاقتصادي من الشركات التقليدية، خاصة فئة الشباب، وهي تعمل كحلقة وصل بين البشر والاحتياجات التكنولوجية المتنامية.

كما يدعي هؤلاء أن هذه الشركات تدعم فعلياً كثيراً من الشركات الصغيرة العاملة في أبحاث الذكاء الاصطناعي، التي تتطلب استثمارات كثيفة تعجز الحكومات عن توفيرها دائماً، فقد أنفقت شركة أمازون 20 مليار دولار على الاستثمار والاستحواذ، وأيضاً على ما لا يقل عن 128 شركة ناشئة للذكاء الاصطناعي في جميع أنحاء العالم، أسهمت تلك الاستثمارات في تقدم ملحوظ في مجال السيارات ذاتية القيادة.

لذلك يرى هؤلاء أن احتكار «أمازون» – مثلاً – يعود على العالم بخير كثير، وليس عملاً بائساً لتعظيم الثروات على حساب حاجة الناس، ولذلك فإن تطبيق قوانين الاحتكار وتفكيك شركة بحجم أمازون يعني التضحية بالابتكار والتقدم التكنولوجي الذي يأتي منها!!

  لكن، وكما يؤكد الدكتور عمرو سليمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة حلوان المصرية، تظل الأصوات المبررة لسياسات الشركات الكبرى الاحتكارية تواجه برفض من كثير من خبراء الاقتصاد المتمسكين بمخاطر الاحتكار، حيث يرون أن تبرير الاحتكار يتجاوز في أضراره المكاسب التي يتحدث عنها هؤلاء..  فإذا كانت هذه الشركات تقدم منافع للمجتمع، فإن مخاطر تعظيم الأرباح الناتجة بسبب الاحتكار – ولو من غير قصد – قد تتسبب في كارثة اقتصادية كبيرة فيما لو انفجرت فقاعة الأسهم لهذه الشركات، كما حدث في أوقات سابقة، وهذا الحجم يجعل مواجهة طموح هذه الشركات أمراً بالغ الصعوبة.

د‭. ‬عمرو‭ ‬سليمان‭: ‬الاحتكار‭ ‬توحش‭ ‬اقتصادي‭ ‬يؤدي‭ ‬إلى‭ ‬كوارث‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية

فالاحتكار لم يعد ضاراً من خلال التأثير في الأسعار ومنع الدخول، بل من خلال موقع ونفوذ مهيمن، وقوة لم يسبق للعالم أن واجهها مع شركات عالمية من قبل، كما أن الصراع بين شركات التكنولوجيا في العالم قد يؤجج صراعاً عنيفاً بين الدول المهيمنة، أو لمنعها من السيطرة، لذلك يبقى الاحتكار آفة اقتصادية يصعب تحملها، ومن هنا يطالب هؤلاء حكومات العالم باعتماد إجراءات حمائية، وإدارة القطاعات المحلية عن كثب، والسعي إلى تحقيق رؤى جديدة تتعلق بالاستقلال الاقتصادي، والبحث عن صيغ اقتصادية للتعاون مع الشركات الدولية بما يمنع توحشها الاقتصادي وتأثيرها على اقتصاداتها.

ضد‭ ‬الحرية‭ ‬الاقتصادية

  يقول الدكتور رفعت العوضي، أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر وعضو مجمع البحوث الإسلامية: لا مجال لقبول الاحتكار تحت أية مبررات، فالاحتكار ضد الحرية الاقتصادية التي يروج لها هؤلاء، فكيف تتحقق حرية السوق مع وجود شركات مهيمنة على الإنتاج وعلى التوزيع والتجارة؟ 

ويرى الدكتور العوضي أن الدول الكبرى صناعياً وتجارياً، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، تستطيع أن تحد من مخاطر احتكار شركاتها بالتشريعات الضابطة لنشاطها والمنظمة لعلاقاتها بغيرها من الشركات الموجودة في الأسواق، سواء أكانت شركات متعددة الجنسيات أم شركات وطنية، ولكنها لا تريد، لأنها ترى مصالحها الاقتصادية في السيطرة والهيمنة.

ويشدد أستاذ الاقتصاد بجامعة الأزهر على أن تبرير الاحتكار جريمة اقتصادية لا يجوز السكوت عنها أو تركها تمر مرور الكرام، لأن الاحتكار يمثل مشكلة اقتصادية مطلوب مواجهتها بكل الوسائل، فتداعيات الاحتكار على اقتصادات الدول كثيرة وخطيرة، وعلى الدول التي تنتمي إليها الشركات المحتكرة أن تعمل على إنهاء هذا الاحتكار اليوم قبل الغد، لأن آثاره كبيرة وخطيرة، ليس على الاقتصاد العالمي كله وليس اقتصادات الدول النامية فحسب، فهو ضد العدالة الاقتصادية التي ننشدها لأسواقنا المعاصرة، وضد استقرار الاقتصاد العالمي، بل هو يمثل خطورة بالغة على اقتصادات الدول التي تمارس شركاتها هذا الاحتكار.

وأوضح الدكتور العوضي أن الاحتكار موجود في كل العصور، وفي ظل مختلف الأنظمة الاقتصادية، لكن مشكلة الاحتكار المعاصر أنه متوحش، ولا تستطيع دولة أو مجموعة دول بمفردها تفادي مخاطره إلا بالتعاون واتخاذ موقف جماعي.. ويقول: التقارير الاقتصادية تؤكد تصاعد ظاهرة الاحتكار في العالم العربي، وهو ما أدى إلى تصاعد معدلات الغلاء، وتراجع معدل الادخار إلى مستويات منخفضة للغاية. ويضيف قائلاً: المتوسط العالمي للادخار تراجع بنسب كبيرة، ففي كل دول العالم هناك مشكلة في الادخار، باستثناء دول قليلة في مقدمتها الصين، وفي عالمنا العربي تراجع معدل الادخار في دول عربية يتمتع مواطنوها بمستوى دخل جيد، فكيف بالدول العربية التي تعاني كثير منها من مشكلات اقتصادية، حيث يأكل الغلاء معظم الدخل، ويضطر بعض المواطنين إلى الاستدانة من أجل الوفاء بمتطلبات حياتهم، ولا يمكن عزل هذه المشكلة عن الاحتكار، فاحتكار بعض السلع والخدمات أدى إلى رفع أسعارها وأصبحت عبئاً على المستهلك العربي.

منهج‭ ‬الاقتصاد‭ ‬الإسلامي

ويؤكد الدكتور العوضي أن مواجهة الاحتكار لا تحتاج إلى تشريعات قانونية فحسب.. بل تحتاج إلى نشر ثقافة الاقتصاد الإسلامي بين الشركات والتجار والجماهير في آن واحد، بحيث يدرك المحتكر أنه يتعرض لأضرار الاحتكار مثل غيره، فهو قد يحتكر سوق الحديد، ولكنه على الجانب الآخر يضطر إلى الخضوع للمحتكر في مجال السلع الأخرى من غذاء ودواء إلى آخره.. ليس هذا فحسب، بل يضطر أيضاً إلى استهلاك مواد غذائية ذات جودة أقل وسعر مرتفع، بالإضافة إلى أنه باحتكاره لأية سلعة سيتعرض لعقاب من الله تعالى في الدنيا والآخرة، وهذا يعني أن شيوع الاحتكار سيعود أثره بالسلب على المحتكر نفسه.. وهكذا فإننا إذا نشرنا تعاليم الاقتصاد الإسلامي فسوف نواجه مختلف الظواهر السلبية الأخرى التي تمخضت عن الاقتصاد الوضعي الذي سيطر على مجتمعاتنا لفترات طويلة، ولم يؤد لشيء.

د‭. ‬رفعت‭ ‬العوضي‭: ‬الاحتكار‭ ‬يمثل‭ ‬خطورة‭ ‬بالغة‭ ‬على‭ ‬الاقتصاد‭ ‬العالمي‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬مواجهته

ويشدد الدكتور العوضي على أن الإسلام من خلال منهجه الاقتصادي وضع الأسس السليمة لاقتلاع المشكلات الاقتصادية من جذورها، وواجه الاحتكار بصرامة، حيث تتميز التجربة الإسلامية في هذا المجال بتميز مطلق، فالإسلام أقام أول حضارة بها وزير لشؤون السوق وهو (المحتسب) الذي كان يقوم بمنع الاحتكار، ويمنع الغش في السلع، ويحمي البيئة، وكان المحتسب يقوم بذلك من خلال وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ومن وظائف المحتسب في مجال التعامل مراقبة الغش في أصناف السلع والأسعار، والغش في الكيل والميزان والاحتكار والوفاء بالعهود، وتوصيل الحقوق لأصحابها، وبذلك يمكن ضمان حقوق أطراف التعامل، وعدم وجود تعارض بين المصالح الفردية ومصلحة المجتمع، وضمان سيادة القواعد الإسلامية للنشاط الاقتصادي، وهنا يؤكد أستاذ الاقتصاد بالأزهر على ضرورة حسن اختيار المراقبين والمفتشين على الأسواق، وإعطائهم السلطة التنفيذية لتطبيق الأحكام مباشرة، وبالطبع فإن الاختصاصات والأساليب التي يتبعها المراقب تختلف باختلاف الأماكن والأزمنة وظروف المجتمع، إلا أنها تتفق في أحكامها العامة ووجوب التزامها بأحكام الشريعة تحقيقاً لمصالح الناس.

الاحتكار‭ ‬والأمن‭ ‬الاجتماعي

  الدكتور محمد نبيل السمالوطي، أستاذ علم الاجتماع والنائب السابق لرئيس جامعة الأزهر، يؤكد أن الاحتكار باعتباره مشكلة اقتصادية، يؤدي إلى رفع الأسعار، وعجز كثير من الأسر عن الوفاء باحتياجاتها الضرورية؛ وبالتالي فإنه يسبب بالطبع مشكلات اجتماعية وأمنية كثيرة، والحوادث التي نطالعها كل يوم في أكثر من بلد عربى تؤكد أن المشكلات الاقتصادية والعجز عن الوفاء بالمتطلبات الحياتية يؤدي إلى انتشار الجرائم الأسرية، فهناك أبناء يعتدون بدنياً على آبائهم وأمهاتهم بسبب الحاجة إلى المال، أو عدم القدرة على الزواج، أو العجز عن تلبية مطالبه المادية، أو توفير مقومات الحياة الكريمة له.. فضلاً عن المشكلات اليومية التي تحدث بين التجار والمستهلكين بسبب زيادة الأسعار.

ويضيف قائلاً: كل مشكلة اقتصادية تنشأ أو تتفاقم في أي مجتمع؛ لها انعكاسات اجتماعية، لا يمكن تجاهلها أو المرور عليها مرور الكرام، فالاستقرار الاقتصادي يؤدي حتماً إلى استقرار اجتماعي وأسري، والعكس صحيح تماماً.

وهنا يطالب الدكتور السمالوطي باستعادة دور الدولة في ضبط الأسواق وتنظيمها من خلال تشريعات اقتصادية تجرّم الاحتكار وكافة المممارسات السلبية الأخرى، وتدعم محدودي الدخل في الحصول على احتياجاتهم دون استغلال، ومراقبة الأسواق لضمان تنفيذ القرارات الاقتصادية، ومعاقبة المتجاوزين، ويجب أن يدرك الجميع أن التصدي لمنتِج أو تاجر جشع لا يعني أبداً أن يضر بحرية السوق أو يصادر مبدأ حرية العرض والطلب، ففي كل مجتمع متجاوزون ومستغلون ومتحايلون على القوانين التي تهدف في النهاية إلى تحقيق العدالة في الأسواق.

د‭. ‬محمد‭ ‬نبيل‭ ‬السمالوطي‭: ‬الاحتكار‭ ‬يهدد‭ ‬استقرار‭ ‬وأمن‭ ‬المجتمعات‭ ‬ولابد‭ ‬من‭ ‬دور‭ ‬للحكومات

ويشدد الدكتور السمالوطي على أن الاقتصاد الحر لا يعني فوضى الأسواق، وانتشار الاحتكار أو الغش، فهذه الحرية المنفلتة لها تأثيرات سلبية على النشاط الاقتصادي، وبالتالي على أحوال الأفراد الاجتماعية، ولذلك يظل للدولة دور مهم في ضبط الأسواق بما يحقق الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، وبما لا يتعارض مع حرية السوق.

أيضاً.. يشدد أستاذ علم الاجتماع على دور الوعي الجماهيري بمواجهة الاحتكار والمحتكرين، ويقول: بالتأكيد المستهلك له دور لا ينبغي إغفاله في منظومة مواجهة الاحتكار، وهو دور مهم لو تم تفعيله عن طريق نشر الوعي به، وتبني مواقف إيجابية من تلك الشركات التي تمارس الاحتكار، فهناك شركات وطنية تقوم بالتسويق وبيع منتجاتها، يجب دعمها والتعامل معها، بدلاً من التعامل مع الشركات ذات الأسماء البراقة، كما أن هناك منتجات وطنية جيدة تعد بديلاً جيداً ورخيصة الثمن للمنتجات التي نسعى لشرائها من خلال شركات التسويق الدولية. 

ولذلك ينصح الدكتور السمالوطي الشباب والفتيات، باعتبارهم الفئة الأكثر تسوقاً من خلال مواقع الشركات الدولية على الإنترنت، بدعم منتجات بلادهم، أو منتجات الدول العربية والإسلامية، لأنها في كثير من الأحيان تكون أكثر جودة، وأرخص سعراً.. ويقول: الانبهار أو التفاخر بالتعامل مع الشركات الدولية للتسوق يجلب لشبابنا خسائر كثيرة، فالبدائل موجودة إلى حد كبير، والمطلوب تغيير نمط التسوق السائد بين هؤلاء الشباب الآن، والذي أصبح يبحث عن الطريق الأسهل في كل شيء.

 

آفة‭ ‬اقتصادية‭ ‬واجتماعية

  الدكتور نجاح عبدالعليم أبو الفتوح، أستاذ الاقتصاد الإسلامي بجامعة الأزهر، يؤكد أن الاحتكار آفة اقتصادية واجتماعية بما يتضمنه من تجاوز للعدل وظلم للناس بفرض قيمة غير عادلة، ومجافاة للكفاءة الاجتماعية في استخدام الموارد في الوفاء بحاجات الناس.

وحول مفهوم الاحتكار في المنظور الإسلامي والوسائل المتاحة لمقاومته، ينصرف هذا المفهوم في الفقه الإسلامي إلى «شراء الشيء وحبسه ليقل بين الناس فيغلو سعره ويصيبهم بسبب ذلك الضرر».  

وقد ذهب كثير من الفقهاء إلى أن الاحتكار المحرّم هو الاحتكار الذي تتوفر فيه شروط ثلاثة: أن يكون الشيء المحتكر فاضلاً عن حاجة الشخص وحاجة من يعولهم سنة كاملة، لأنه يجوز أن يدخر الإنسان نفقته ونفقة أهله هذه المدة كما كان يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن يكون قد انتظر الوقت الذي تغلو فيه السلع ليبيع بالثمن الفاحش لشدة الحاجة إليه.. وأن يكون الاحتكار في الوقت الذي يحتاج الناس فيه المواد المحتكَرة من الطعام والثياب ونحوها، فلو كانت هذه المواد لدى عدد من التجار ولكن لا يحتاج الناس إليها، فإن ذلك لا يعد احتكاراً، حيث لا ضرر يقع بالناس.

والواضح أن الاحتكار في المفهوم الفقهي يكون باعتبار الحاجة إلى السلعة محل الاعتبار، وباعتبار قصد إغلاء السعر على الناس، ويصيبهم بسبب ذلك الضرر. فنحن إذن بصدد احتكار في جانب البيع، أركانه: وجود حاجة إلى السلعة من قبل الناس، وخفض مصطنع في عرضها، وقصد لإغلاء سعرها.. الأمر الذي يعنى في الحقيقة – حال وقوعه – أن كسب البائع في هذه الحالة يتضمن جزئياً، وبغير حق،  تحويلاً لجانب من الدخول الحقيقية لمستهلكي السلعة محل الاعتبار إلى البائع، وهو الجزء المقابل للزيادة في سعر السلعة عن سعرها الذي كان يمكن أن يسود لولا حبس السلعة والانخفاض المصطنع في عرضها.

د‭. ‬نجاح‭ ‬أبو‭ ‬الفتوح‭: ‬الإسلام‭ ‬واجه‭ ‬الاحتكار‭ ‬وفساد‭ ‬الأسواق‭ ‬بكل‭ ‬قوة‭ ‬وعدالة

ويضيف قائلاً: من المعلوم أن مقدرة البائع على رفع الأسعار تزداد إذا كانت السلعة محل الاعتبار من السلع الضرورية التي تتميز بقلة مرونة الطلب عليها، الأمر الذي يفاقم سوء أحوال الفقراء ووضعهم النسبي باعتبار أن إنفاقهم على الضروريات يشكل نسبة كبيرة من إجمالي ميزانياتهم.

تحريم‭ ‬الإسلام‭ ‬للاحتكار

ويوضح الدكتور نجاح أن الاحتكار في المنظور الإسلامي يشمل احتكار البيع.. وأيضاً احتكار الشراء، حيث تتوفر مقدرة احتكارية لبعض المنتجين على بخس أثمان عوامل الإنتاج – مثلاً -، فالعبرة في التحريم هنا توفر «علة الإضرار» بأصحاب عوامل الإنتاج، والواضح أيضاً أن الشارع الحكيم ينهى عن أن يُبخسُ الناس أشياؤهم، وأن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الذي رواه أبو سعيد الخدري رضي الله عنه «لا ضَرَرَ ، وَلا ضِرارَ» (مجمع الزوائد 2/92، رواه الطبراني في الأوسط).

وعلى أية حال فإن هذا الاحتكار في جانب الشراء يتضمن أيضاً كسباً بغير حق، في شكل تحويل لجانب من الدخول الحقيقية لأصحاب عوامل الإنتاج لصالح مشتري خدمات هذه العوامل، عن طريق تخفيض أثمان خدمات عوامل الإنتاج عن مستواها الذي كان يمكن أن يسود لولا وجود هذا الاحتكار، فمثلما يحرم الإسلام احتكار السلع والخدمات بما يرفع أسعارها ويحدث ضرراً بالناس. فيلحق بتحريم الاحتكار، أيضاً حبس خدمات عوامل الإنتاج بقصد رفع أسعارها على نحو يضر بالناس، فالعلة واحدة وهي الإضرار بالناس. وفي تحريم الاحتكار بهذه الكيفية درء لسببين من أسباب التضخم:

 الأول: ارتفاع ثمن العرض نتيجة لافتعال قصور فيه.

 الثاني: ارتفاع ثمن العرض نتيجة لارتفاع الأجور وغيرها من تكاليف استخدام عناصر الإنتاج الأخرى.

وهكذا فإن الاحتكار يعد سبيلاً إلى الإضرار بالناس وذلك بفرض قيمة غير عادلة، والحال كذلك بعدالة التوزيع من ناحيتين على الأقل: فزيادة قيمة المنتج عن القيمة العادلة تمثل في الحقيقة تحويلاً من المشترين إلى البائع (المحتكر)، وكذلك فبخس عناصر الإنتاج قيمتها العادلة تمثل في الحقيقة تحويلاً من أصحاب هذه العناصر إلى المحتكر أيضاً، وذلك دون عوض.. هذا فضلاً عن تحقيق أرباح زائدة تعمل كعامل من عوامل تركيز الثروات في أيدي قلة محتكرة دون بذل عمل مشروع، ويأخذ ذلك جانباً من عمل الآخرين دون عوض حقيقي.

ولذلك يشترط في الأسواق الإسلامية حِل المعاملات والانتهاء عن المحرمات، ومن ذلك تحريم التعامل بالربا والاحتكار، ويحرم الإسلام عموما كل ما يخل بانضباط قيم الأشياء، أو يخل بعموم العدل في التعامل، ومن ذلك تحريم بيوع الغرر وشراء المغصوب والمسروق وتلقي الجلب والبخس والخلابة والخداع وأن يبيع حاضر لباد.  وكل هذه المحرمات تؤول، حال حدوثها، إلى فرض قيمة غير عادلة للسلع والخدمات والتظالم بين الناس.

وينتهي الدكتور نجاح إلى أن الاحتكار يتعارض مع المقصد الأم للشريعة الإسلامية في تحقيق العدل الذي يعطي كل ذي حق حقه.

مقاومة‭ ‬الاحتكار

وعن وسائل مقاومة الاحتكار في المنظور الإسلامي يؤكد الدكتور نجاح أن الإسلام يقدم في هذا الصدد وسائل عديدة  من أهمها:

– الرقابة الذاتية: وهي رقابة ضمير المسلم، والذي يعلم بأن الله رقيب عليه في كل أفعاله وأعماله، كما ورد في قول الله تعالى (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) النساء1. والرقابة الذاتية من أقوى سبل الرقابة إذا سلم الضمير، وهي رقابة مانعة للتجاوز المقصود.

– رقابة ولي الأمر: وتتجلى مسؤولية ولي أمر المسلمين في الحديث الشريف الذي رواه البخاري في صحيحه (2/497): عن عبدالله بن عمر قال:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِه، الإمامُ راعٍ ومَسْئُولٌ عن رَعِيَّتِهِ، والرَّجُلُ راعٍ في أهله وهو مسؤول عن رعيته، والمَرْأَةُ راعِيَةٌ في بَيْتِ زَوْجِها ومَسْئُولَةٌ عن رَعِيَّتِها، والخادِمُ راعٍ في مالِ سيده ومسئول عن رَعِيَّتِهِ».. قال وحسبت أن قد قال: «والرجل راعٍ في مالِ أبيهِ ومسئولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسئول
عن رعيته…».

– رقابة الحسبة: فالحسبة هي أمر بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهي عن المنكر إذا ظهر فعله. 

– رقابة جمهور المسلمين: ذلك أن قاعدة النظام المالي الإسلامي الخلقية ركيزتها أخلاق الراعي والرعية أجمعين، وهي واجب على المسلمين تطبيقاً للحديث النبوي الشريف «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِلِسانِهِ، فإنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَبِقَلْبِهِ، وذلكَ أضْعَفُ الإيمانِ» (رواه مسلم).

وخلاصة القول – كما يقول الدكتور نجاح عبدالعليم – أن الاحتكار بأنواعه مؤثم في الإسلام لأنه يتعارض مع مقصد الشريعة في تحقيق العدل، لما يلحقه من ضرر بالناس من وجوه عديدة، ولأنه يتعارض مع الغاية من الاستخلاف من تحقيق كفاءة الإعمار والوفاء بحاجات الناس عوناً لهم على الإعمار وعبادة الله، وكذا للنصوص الشرعية والآثار في هذا الصدد. 

 وفي الإسلام أساليب عديدة وفعالة للوقاية من الاحتكار ومحاربته يمكن الإضافة إليها بحسب الحاجة، وبما لا يتعارض مع مقاصد الشريعة الإسلامية ونصوصها، وقد شيَّد الإسلام بالقاعدة الشرعية «لا ضرر ولا ضرار» سياجاً محكماً لضمان مصالح الناس في دنياهم وآخرتهم تدور داخله معاملاتهم. ويوضح الدكتور نجاح أن الإسلام يرحب بكل الإجراءات التي تتخذ الآن من مختلف دول العالم – الإسلامى وغير الإسلامى- لتجريم الاحتكار ومنعه ومعاقبة من يمارسه، فالهدف الأسمى هو تحقيق العدالة في الأسواق بيعاً وشراءً، وعدم الإضرار بالناس منتجين وبائعين ومستهلكين.

+974 4450 2111
info@alsayrfah.com