الإسلام يرسخ ثقافة الاعتدال في الإنفاق ويواجه السَّرَف
أكدت تقارير اقتصادية عالمية وعربية أن أزمة انتشار وباء كورونا، وما نتج عنها من تعطل النشاط الاقتصادي، وتحجيم عوائده، وتراجع دخول العاملين في قطاعات إنتاجية كثيرة أدت إلى تعزيز ثقافة الادخار في مختلف دول العالم، وتراجع الإنفاق الترفي بفعل الخوف من المستقبل.
ويرى اقتصاديون أن تفشي وباء «كورونا» تسبب في تدابير إغلاق واسعة حول العالم، مما قلص أوجه الإنفاق المحتملة خاصة على الصعيد الترفيهي، مما جعل قرار الادخار «إجبارياً»، كما أنه حتى مع تخفيف هذه التدابير لم يعد سلوك المستهلكين إلى ما كان عليه مع استمرار الخوف من الفيروس، وظهور موجات وسلالات جديدة منه، وعدم قدرة الأنظمة الطبية في العالم على ملاحقته.
القاهرة – بسيوني الحلواني
ادخار قسري
وأشار تقرير اقتصادي أوروبي إلى أن انخفاض الدخول بسبب فقدان الوظائف قد أدى إلى «الادخار القسري»، بينما شكل بقاء الناس في منازلهم، وتجنبهم السفر، واعتمادهم العمل عن بُعد، وما ترتب على ذلك من خفض للنفقات التي تشمل: المواصلات والغذاء والملابس …الخ، شكل ذلك محفزاً آخر للادخار، وأسهمت تدابير حكومية للحد من انتشار الوباء في التأثير بشكل كبير على أنماط الإنفاق الاستهلاكي، وفي تنامي معدلات الادخار.. ففي مجتمع مثل أمريكا كان معدل الادخار في عصر ما قبل كورونا في حدود الـ10%، لكنه في عام 2020 والربع الأول من عام 2021 قفز إلى مستوى قياسي تجاوز في بعض الشهور نسبة 33%، رغم بقاء ملايين الأمريكيين في المنازل، والخوف بشأن مستقبل الوظائف والدخل.. كما صعد معدل ادخار الأسر في منطقة اليورو إلى معدلات قياسية خلال العام الماضي، وارتفعت ودائع الشركات لتتجاوز 15 تريليون يورو لأول مرة على الإطلاق، مع زيادة ودائع المؤسسات غير المالية بنحو 20.4% وزيادة مدخرات الأفراد 7.4%.. وتكرر نفس الأمر في كندا، والتي صعد فيها معدل ادخار الأفراد من 3% على الأكثر قبل الوباء إلى ما يزيد على 28%.
ويؤكد خبراء الاقتصاد في الغرب أن هذا التطور في معدلات الادخار خلال أزمة كورونا وما خلفته من أزمة اقتصادية عالمية لم يكن استثنائياً في التاريخ الحديث، حيث إنه عقب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 ارتفع معدل الادخار في مختلف دول العالم بشكل ملحوظ رصدته العديد من الدراسات الاقتصادية.
وتوقع محللون اقتصاديون غربيون أن مستقبل الادخار في أوروبا بعد زوال جائحة كورونا سيكون أفضل، مع عدم عودة الإنفاق إلى مستويات ما قبل أزمة كورونا، وطالبوا بضرورة تعزيز ثقافة الادخار لإشعار كل أفراد المجتمع بأهميته وتوجيهه نحو تأسيس شبكات أمان اجتماعي اقتصادي للأسر.. وشددوا على ضرورة وجود دور للبنوك في مختلف الدول الغربية للتشجيع على الادخار الآمن، ودعوا إلى إنشاء صناديق أوسع لهذا الغرض، تشمل المواطنين والمغتربين، وحثهم على الاستثمار في تلك الصناديق.
عربياً.. أكدت تقارير اقتصادية عدة إلى تنامي الادخار خلال عام 2020، والربع الأول من عام 2021 في العديد من الدول العربية رغم تراجع الدخول خلال تلك الفترة.. ففي مصر تنامت الودائع البنكية الاستثمارية بأشكالها وأنماطها المختلفة خلال تلك الفترة بنسبة 13% وفقاً لما أعلنه البنك المركزي المصري.. وفي المملكة العربية السعودية أشار تقرير إلى تنامي المدخرات في عصر كورونا بنسبة 6%. وفي الإمارات العربية المتحدة أفادت شركة الصكوك الوطنية بأن أزمة «كورونا» عززت من ثقافة الادخار في المجتمع، حيث أدرك كثيرون أهمية الادخار، لاسيما أن هذه الأزمة أثرت سلباً في بعض الأفراد والأسر، وأوقعتهم في مشكلات مالية.
وأكدت الشركة في تصريحات خاصة لـصحيفة «الإمارات اليوم»، أنه كما كان للأزمة تأثيرات سلبية على البعض، كان لها تأثيرات إيجابية على البعض الآخر، حيث استفاد هؤلاء من الأزمة من خلال تعظيم معدلات الادخار لديهم، عبر الاستفادة من بنود الإنفاق التي من الممكن التوفير منها، ومنها بند الإيجارات التي انخفضت بنسبة جيدة خلال 2020.
والأسئلة التي تفرض نفسها هنا، والتي بحثت «الاقتصاد الإسلامي» عن إجابات لها لدى علماء الشريعة وأساتذة وخبراء الاقتصاد هي: هل فرضت جائحة كورونا حاجة ملحة للادخار عن ذي قبل؟ وهل زيادة معدلات الادخار يعود بالنفع على المجتمع أم سيؤثر على حركة الاقتصاد؟ وماذا قدم الاقتصاد الإسلامي لتعزيز ثقافة الإنفاق المتوازن؟ وما الادخار الذي يحث ويشجع عليه الإسلام؟ وما واجب البنوك الإسلامية في نشر وتعزيز هذه الثقافة؟ وأخيراً .. ما واجب علماء ودعاة الإسلام في مواجهة السرف الاستهلاكي وتعزيز ثقافة الإدخار؟
الإسلام والادخار
الدكتور أحمد عمر هاشم، أستاذ الحديث وعلومه وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، يؤكد أن الإسلام قدم نموذجاً فريداً في الإنفاق، واهتم اهتماماً كبيراً بترشيد السلوك الإنفاقي عن طريق مجموعة من الضوابط التي يجب على المسلم أن يلتزم بها كي يكون سلوكه رشيداً، وهذه الضوابط ليست اختيارية، بل هى ضرورية لضبط سلوك الإنسان في التعامل مع المال ومع كل نِعم الله.
ويوضح الدكتور هاشم أن المنهج الإسلامي في الإنفاق يرفض التقتير، كما يرفض الإسراف، فهو يقوم على التوسط والاعتدال، وهذا التوسط ورد في كتاب الله الخالد كصفات للمؤمنين الصادقين، وجاء في شكل أوامر ونواه صريحة يجب الوقوف عندها، فالله سبحانه وتعالى يقول: (والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يَقتُروا وكان بين ذلك قواما) الفرقان67. ويقول سبحانه: (ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسُطها كل البسط فتقعد ملوماً محسورا) الإسراء29، ويقول عز وجل: (وكلوا واشربوا ولا تسرفوا) الأعراف31.. فالمسلم في إنفاقه وتعامله مع نعم الله إما أن يكون مقتراً، وهذا سلوك مرفوض، وإما أن يكون مسرفاً، وهذا سلوك مرفوض أيضاً، وإما أن يكون معتدلاً، وهذا هو التوسط الذي يحث عليه الإسلام.. ففي الإسلام لا تقتير ولا حرمان من نعم الله، وأيضاً لا إسراف وسفه وإهدار لنعم الله، ولكن منهج المسلم يتمثل في قول الحق سبحانه: (الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً)، وما اتبع قوم هذا الاعتدال في الإنفاق وعانوا من مشكلة حتى ولو كانوا من محدودي الدخل.
ويوضح الدكتور هاشم أن هذا المنهج الإسلامي المعتدل يقودنا حتماً إلى الإدخار في كل وقت، وإلى استثمار ما ندخره لنستفيد منه، ويستفيد المجتمع أيضاً، والمسلم لا يدخر اكتنازاً للمال، كما لا يدخر خوفاً من الفقر والحاجة، بل يدخر لأنه مأمور بالمحافظة على نعم الله وعدم إنفاقها فيما لا يفيد.. لذلك ينبغي أن نعلم أبناءنا منذ نعومة أظفارهم السلوك الاقتصادي الرشيد الذي يقوم على الاعتدال والتوسط، فلا تقتير ولا إسراف، وهذا المنهج هو الذي يلبي مطالبهم في كل وقت، ويحفظ لهم ثمرات جهدهم وكفاحهم، ويوفر لهم ولأبنائهم في المستقبل الحياة الكريمة، فلا ينبغي للإنسان أن ينفق كل ما يتكسبه من رزق، حتى ولو كان على الصدقة – وهي أفضل مجالات الإنفاق – ثم يترك عياله بعد ذلك يتكففون الناس، وقد جاء في الحديث الصحيح عن سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه قال: جاءَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَعُودُنِي وأنا بمَكَّةَ، وهو يَكْرَهُ أنْ يَمُوتَ بالأرْضِ الَّتي هاجَرَ مِنْها، قالَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ ابْنَ عَفْراءَ»، قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُوصِي بمالِي كُلِّهِ؟ قالَ: «لا»، قُلتُ: فالشَّطْرُ، قالَ: «لا»، قُلتُ: الثُّلُثُ، قالَ: «فالثُّلُثُ، والثُّلُثُ كَثِيرٌ، إنَّكَ أنْ تَدَعَ ورَثَتَكَ أغْنِياءَ خَيْرٌ مِن أنْ تَدَعَهُمْ عالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ في أيْدِيهِمْ، وإنَّكَ مَهْما أنْفَقْتَ مِن نَفَقَةٍ، فإنَّها صَدَقَةٌ، حتَّى اللُّقْمَةُ الَّتي تَرْفَعُها إلى في امْرَأَتِكَ، وعَسَى اللَّهُ أنْ يَرْفَعَكَ، فَيَنْتَفِعَ بكَ ناسٌ ويُضَرَّ بكَ آخَرُونَ، ولَمْ يَكُنْ له يَومَئذٍ إلَّا ابْنَةٌ (صحيح البخاري 2742).
وسيلة لوقف الإسراف
ويتفق الدكتور نصر فريد واصل، عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر ومفتي مصر السابق، مع الدكتور هاشم، ويؤكد أن السرف الاستهلاكي الذي نعاني منه في مجتمعاتنا المعاصرة، هو السبب المباشر لقلة المدخرات، ويقول: لا شك أن زيادة الاستهلاك دون حاجة حقيقية تمثل إهداراً لنعم الله، وتؤكد ضعف الوعي الديني، والوعي الصحي، والوعي الاقتصادي، لأن السرف في التعامل مع نعم الله له أبعاد دينية وسلوكية وتربوية واقتصادية، فضلاً عن تداعياته الصحية، ويكفي أن نعلم حجم الأمراض الفتاكة التي تصيب الإنسان نتيجة ما يملأ به بطنه دون وعي، ودون إدراك للمخاطر المحيطة به، ومن المؤسف أن تشهد مجتمعاتنا الإسلامية حالة غريبة من السفه الاستهلاكي في شهر رمضان، حيث يتعامل الغالبية العظمى من المسلمين مع الطعام والشراب بأسلوب غير رشيد، وغير صحي، ويتنافى في مجمله مع توجيهات الإسلام وتعاليمه التي تحمل للإنسان كل الخير.
ويرى الدكتور واصل أن تحول شهر الصوم في حياتنا – وهو شهر ادخار للطعام والشراب – إلى موسم سنوى للإسراف يمثل قمة العبث في السلوك الاقتصادي، وهذا العبث يجب أن يواجه سواء في أوقات الاستقرار، أو في أوقات الأزمات وشدة الحاجة؛ كما هو الحال الآن بسبب وباء كورونا، الذي أراده الله سبباً لذلك لكي يدرك الإنسان فضل الله ونعمه التي لا تحصى عليه.
ويشدد الدكتور واصل على أن «الإنفاق المعتدل» ليس حافزاً على الادخار فحسب، بل هو يحمي الإنسان من تبعات السلوك المحرم شرعاً، ويقيه من عقاب الخالق سبحانه وتعالى، فالسفه الإنفاقي الاستهلاكي يمثل إهداراً لنعم الله، وهذا سلوك محرم في الشريعة الإسلامية، فالإسلام دين اعتدال في كل شيء، ويحرم التقتير، وهو الشح في الاستهلاك، كما يحرم الإسراف، لأن كلاهما ظلم للنفس وتحطيم لقدراتها، وإن اختلفت الوسيلة، كما أن كليهما إهدار للموارد الاقتصادية، وإن كان التقتير يؤدي إلى الكساد فإن الإسراف يقود إلى التضخم كما يؤكد أساتذة الاقتصاد، وكلاهما شر يجب أن نتجنبه، وفي الحديث الشريف عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كُلْ واشرب، والبَسْ وتصدق، من غير سَرَف ولا مَخيلة» (رواه أحمد وأبو داود. وعلقه البخاري)، فهذا الحديث يدل على تحريم الإسراف في المأكل والمشرب والملبس والتصدق، كما أن الإسراف في كل شيء مضر بالجسد، ومضر بالمعيشة، ويؤدي إلى الإتلاف فيضر بالنفس.
الاستهلاك والادخار
ويرفض الدكتور نصر فريد واصل الحملات الإعلانية التي تحض على زيادة استهلاك الغذاء، والتي تطارد المستهلكين في مختلف البلاد العربية. ويقول: الاستهلاك المعتدل هو الذي ينشط الأسواق، ويحقق الأهداف الاقتصادية، لكن الاستهلاك العبثي الضار بالفرد والمجتمع الذي نراه في مجتمعاتنا العربية استهلاك ضار بالمجتمع، وعظمة الشريعة الإسلامية أنها تتبنى دائماً سياسة الاعتدال والوسطية في كل شيء.. ترفض التقتير في الإنفاق كما ترفض الإسراف.. ولذلك فالتوسط والاعتدال هو المطلوب وهو الذي يتفق مع منهج الإسلام ويحقق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية، فالذي يسرف سوف يهلك كل مدخراته، وعدم وجود مدخرات أمر مضر بالفرد وبمؤسسات المجتمع الاقتصادية، فمعظم البنوك العاملة الآن في عالمنا العربي، بل والعالم كله، تعمل في استثمار مدخرات الأفراد.. كما أن الإسراف يجعل كثيراً من الناس لا يقدمون الزكاة لمستحقيها، لأنهم بسبب إسرافهم أصبحوا لا يملكون نصابها، وهكذا يضر الإسراف أو زيادة الاستهلاك بالأغنياء والفقراء.
ويشدد عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر على ضرورة أن نربي أولادنا من
+974 4450 2111
info@alsayrfah.com