03 - مايو - 2024

الشريعة الإسلامية مؤهلة لتطبيق تقنين نموذجي شامل باعتراف الأحكام القضائية المناهِضة لها

د. هايدي عيسى حسن *

مدرس بقسم القانون الدولي الخاص

كلية الحقوق – جامعة القاهرة

القاهرة - أشارت (دراسة تأصيلية تحليلية مقارنة) نشرتها مجلة الاقتصاد الاسلامي مؤخرا بعنوان ( تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية تحت مجهر الواقع ) الى أن التقنين بات أمرًا واقعًا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، بل وتناوله بالبيان الفقه الأجنبي حتى صار شأنًا لا يمكن بأي حال غضُّ الطرف عنه؛ حيث أصدرت الدول العربية والإسلامية بلا استثناء قوانين متعددة، في ضوء الحاجة الماسة إلى تنظيم كثير من المسائل المُجتمعية.

وإذا تحدثنا على مسألة تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية، فقد ذكر بعض الفقهاء أنَّ تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية لا يُعدُّ تقنينًا من الناحية الإسلامية أو الشرعية فحسب؛ فهذا وإن كان كافيًا، إلا أنَّ التقنين يشمل أيضًا الناحية الإسلامية القومية؛ فالإسلام دينٌ وقومية، ولنا في قول الله جل في علاه آية، قال تعالى: (إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) سورة الأنبياء الآية92.

وقد تناولت الباحثة في الحلقة الأولى من الدراسة أبرز الأبعاد التاريخية للتقنين، وغايات التقنين والفئات المستفيدة منه، وفي هذه الحلقة سوف تتناول واقع التقنينات الإسلامية وموقف القانون والقضاء الأجنبي منها.

* التقنينات الإسلامية في ميزان القانون والقضاء الأجنبي :

لعل من اللافت أن يُعثَر بين ثنايا الفقه الغربي على دلائل تبرهن على اهتمامهم بتناول مسألة تقنين الشريعة الإسلامية، وتحديدًا من قبل الفقه الأوروبي؛ ولقد كان حتميًّا بعد الوصول لهذه النتيجة ألا يقف البحث عندها، بل يتتبع باقي خيوطها ليُرى هل الفقه والقضاء الأجنبي أنصف فكرة التقنين أم لا؟ وأيًّا ما كان الجواب فمن الطبيعي البحث كذلك عن مواقف بعض المحاكم الأجنبية من تطبيقها للشريعة؟ ليُوجه لها السؤال: هل أنصفت أحكامها القضائية الشريعة الإسلامية وطبقتها حقَّ تطبيقها؟

أولاً: أبعاد دور القانون الأوروبي في التقنين الإسلامي:

لعله كان منطقيًّا أن يكون من بين الأمور التي تستوقف الباحث في خضم موضوع الدراسة عثوره أثناء البحث على بعض محاولات الفقه الغربي لتقنين المعاملات الإسلامية، وذلك إلى جانب بيان ما أداه الفقه الأجنبي – الأوروبي تحديدًا – من دور في الإحياء التشريعي الإسلامي، قوامه وجود تدخلات أجنبية في القوانين المستمدة من الشريعة الإسلامية(1)، بحسب تصريح الدكتور «ليوناردو وود» في أطروحته للدكتوراه بجامعة هارفارد، التي تُرجِمت إلى اللغة العربية .

وعن أبعاد الدور المذكور فقد أظهر «وود» عبر العديد من الأدلة أنَّ التفاعل المتزايد مع المجالات الدراسية الأوروبية ذات الصلة بالنظرية القانونية المقارنة والتشريع الإسلامي ساعد – وبمرور الوقت – على إلهام زعماء الأحياء ومساعدتهم في تطوير نسخة حديثة وقانونية من التشريع الإسلامي؛ وبناءً عليه فوجهة النظر هذه التي أطلقها «وود» سيكون لها بطبيعة الحال تداعيات مهمة على فهم التاريخ المصري ككل، وكذا التاريخ القانوني الإسلامي، بل تاريخ القانون المقارن، وكذا التداخلات أو التفاعلات متعددة الأوجه والمثيرة للجدل بين الفكر الأوروبي والإسلام إبان الحقبة الاستعمارية؛ كبعد أوسع للمسألة .

وبعد الطرح السابق؛ مازال التساؤل قائمًا: هل ما سبق يعني أن الفقه الأجنبي يجنح لقبول التقنينات الإسلامية أم لا؟ وأبعد من ذلك؛ فماذا عن تطبيق المحاكم الأجنبية للشريعة الإسلامية؟ ولن أقول للتقنينات الإسلامية؛ فهل تطبق المحاكم المذكورة مقتضيات الشريعة الإسلامية إذا اقتضت حيثيات القضية ذلك، إذعانًا بأن التقنين الفعلي من قبل السلطة التشريعية المختصة لم ير النور بعد؛ هذا هو ما ستوضحه السطور القادمة.

ثانياً: مواقف بعض الأحكام الأجنبية من تطبيق الشريعة الإسلامية حال عدم وجود تقنين:

لعل مما يكمل الطرح تتبع بعض ردود الأفعال حيال مسألة تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية من واقع أحكام المحاكم الأجنبية التي طُرحت أمام محاكمها مثل هذه المنازعات؛ فما فتئت دلائل أهمية تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية تتسلسل واحدة تلو الأخرى، وإن أتى في مقدمتها تنوع صور الخدمات المصرفية الإسلامية حول العالم، وإنشاء مؤسسات مالية إسلامية في دول كالمملكة المتحدة، وفرنسا،وألمانيا، ولوكسمبورج التي قيل عنها: إنها تعتبر موطنًا فريدًا أو مميزًا للاستثمارات المتوافقة مع الشريعة.

وقبل مغادرة هذا المقام تحديدًا تجدر الإشارة إلى أن ما وصلت إليه فرنسا من مواقف لم يأتِ بين عشية وضحاها؛ فلطالما تساءل الفقه الفرنسي نفسه: لماذا لايزال النظام المالي والمصرفي الفرنسي لا يوفر للمسلمين في فرنسا – الذين يشكلون أكبر جالية إسلامية في العالم الغربي – إمكانية الوصول إلى مجموعة من الخدمات المالية والمصرفية التي تتفق وتوجهاتهم الدينية؟.

وإجمالاً فلقد آثرتُ أن أطرح هنا الرأي والرأي الآخر؛ فإذا كان تقنين المعاملات المالية الإسلامي قد صاحبه قبول لدى قضاة المحاكم الأجنبية بافتراض وجوده، أو بالأحرى تطبيق الشريعة الإسلامية على المعاملات المالية الإسلامية؛ فإن هذه الوقفة أضحت لازمة توضيحًا لأبعادها أولاً، واستظهارًا لحيثياتها ثانيًا، وتقييمًا لها ثالثًا.

وعليه سعيت في هذه الجزئية ألَّا أبين الرأي المطروح فحسب، بل لزم الرد على ما قيل من ذرائع لعدم جواز تقنين الشريعة الإسلامية؛ رغم ما قابله تطبيق الشريعة الإسلامية من رواج وانتشار لدى المحاكم، لن أقول العربية بل الأجنبية، وبطبيعة الحال لدى هيئات التحكيم أيضًا؛ إلا أنه وللأسف – في المقابل – كان أحد الأسباب التي أُسست عليها الأحكام الرافضة لتطبيق الشريعة الإسلامية؛ من ذلك القول بأن:

1- وصفهم للشريعة الإسلامية بأنها قانون وطني وليست تقنيناً دينياً أخلاقياً religious moral code، وترتيبًا على هذا الوصف فالشريعة الإسلامية إذن لا تَفِي بالمعايير المطلوبة!

ولا أبلغ من الرد على هؤلاء بما قالوه هم أنفسهم؛ فوصفهم للشريعة بالتقنين دليلٌ صريح لا ضمني على اعترافهم بما لديها من المقوِّمات الدَّاعِمة لفرض تطبيقها، وقد مضى بيان أنَّ مجرد استقاء أحكام مثل هذه المعاملات المالية الإسلامية من أحكام الشريعة الإسلامية هو في حدِّ ذاته مدعاة لدحض أي شبه ذات صلة بعدم جواز تقنينه.

أضف إلى ذلك ما ذُكِر عن حقِّ التقنين المستمد من أحكام الشريعة هو أنه رد إلى الله وإلى الرسول وليس خيارًا ثالثًا، واستُتبع البعض القول بأن القاضي المجتهد نادرٌ في زماننا.

2- «معظم القانون الإسلامي للمعاملات التجارية والمالية لم يتم تقنينه في ثوبٍ محدَّدِ المعالم؛ وإنما أُسِّس على الآراء المتباينة للمدارس الفقهية«؛ كحجة ثانية.

والقول السابق هو الآخر مردودٌ عليه؛ فنص أطراف العقود المالية الإسلامية – دولية أم لا – على خضوع عقدهم للشريعة الإسلامية مقتضاه الامتثال للقرآن والسنة دونما تحديدٍ لمذهبٍ أو توجه بعينه ، أضف إلى ذلك ما لحق بالحجة السابقة من غرابة بدت ملامحها واضحة؛ كونها صادرة عن مدرسةٍ لا يعتمد نظامها القانوني على التقنين بحسب ما هو متعارف عليه، بل على السوابق والأعراف وهي (المدرسة القانونية البريطانية)!

تعقيب:

ثمة نقاط مهمة ظلت شاهدة على ما مضى توجَز فيما يأتي:

– لا تُقلِّل الفاقة المذكورة من الصلاحية الذاتية للقانون الإسلامي ليكون قانونًا واجبَ التطبيق بوصفه قانونًا وطنيًّا؛ وإن لم يكن قانونًا مقنَّنًا؛ فهو «نظامٌ قانونيٌّ»، باعتراف الأحكام القضائية المناهِضة لتطبيقه؛ لتضمُّنه قواعد قانونيةٍ اجتماعيةٍ عامة ومجرَّدة، ولقدرته على التكيُّف والتطوير والتفسير.

– الاعتراف بحاجة القانون الإسلامي للتقنين المادي إذعانٌ شكليٌّ فرضته اعتباراتٌ قانونيةٌ، وإلا فهو مطبَّقٌ فعليًّا في الدول الإسلامية، وجزءٌ أصيلٌ من قوانينها، وإن تعدَّدت الأنظمة القانونية داخل الدولة الواحدة؛ كقناعات أُسست بعدما اقتضت الدراسة الرجوع لقديم أمهات كتب أصول القانون الإسلامي وحديثها، وبعدة لغات.

– لا يخفى ما لتقنين القواعد المالية الإسلامية أو توحيدها من دور في تعزيز الجهود لقيام اتفاقية دولية بين الدول الإسلامية تسهم في إيجاد نظام قانوني واجب التطبيق يتغلَّب على الذرائع المقدَّمة لاستبعاد التطبيق.

– تعددت النداءات المطالبة بنمذجة العقود المتوافقة مع الشريعة دوليًا أو بصيغة أخرى جعلها عقودًا نمطية؛ خشية الاصطدام بعائق تقنين المعاملات كأحد أبرز التحديات التي تواجه الاقتصاد الإسلامي عقب النزول إلى أرض الواقع.

– إنزالاً لفحوى القواعد القانونية الكلية على مرتبات الحاجة لتقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية؛ فثمة اقتراح فحواه إمكانية صياغة عقود المعاملات المالية الإسلامية مُتمتِّعة بالكفاية الذاتيَّة، تعويلاً على وعي أطرافه بالصورة الكافية على النحو الذي جعلهم يُضمِّنون عقدهم حلولاً واضحةً لتسوية منازعاتهم الأكثر توقُّعًا، وبمفهوم المخالفة عدم تركها مُعلَّقةً حسب اجتهاد القاضي أو المحكم.

وبهذا التعقيب يُشار إلى انتهاء المبحث الثاني بطرح بعض النتائج والتوصيات التي تختتم بها الدراسة وتضاف كذلك لقائمة النتائج والتوصيات المرفقة بخاتمة الدراسة تحاشيًا لتكرارها، داعية المختصين والمسئولين والفقهاء وكلِّ ذي صلة أن يبدأ من حيث انتُهي بالفعل، وعسى ما حملته الدراسة بين سطورها من أهداف كانت مدعاة لشحذ الهمم.

الخاتمة (النتائج والتوصيات)

إن موضوع البحث المقتطف لواحدة من أدق أبعاد تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية ووضعها تحت مجهر الواقع؛ في دراسة تأصيلية تحليلية مقارنة، شأنُ اقتضى انشطارها لمبحثين أساسيين، سبقتهما مقدمة ضمَّت إطلالة مجملة على موضوع الدراسة ودواعي أهميته، أعقبها عرض لأخص إشكالياتها وأبرز أهدافها، مرورًا بتوضيح أنسب المناهج التي سلكتها الدراسة وصولاً لمنهجيتها وخطتها الأَولى.

ولقد شُيدت أعمدة كلٍّ من منهجية الدراسة ومعها خطتها على فكرتين أساسيتين؛ طرحت أولهما طرحًا مقتضبًا لجملة أوليات في تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية، تلاه استشراف الواقع الذي تشهده ساحة التقنينات الإسلامية عمومًا والمالية خصوصًا، عاضدهما وضعها في ميزاني الفقه والقضاء الأجنبي، لتستجمع الدراسة بذلك أهم مقوماتها التطبيقية أو العملية إلى جوار فكرتها النظرية من زاوية مُستدامة استعرضت التوجهات المتنوعة الممتثلة لطبيعة واحتياجات المعاملات المالية الإسلامية.

وبعدما وصلت الدراسة – بحمد الله ومنته – إلى هذه المرحلة، انتهت إلى النتائج والتوصيات الآتية:

1- النتائج:

أولًا- عرفت الشرائع القديمة قبل الحديثة فكرة التقنين بحسب ما أفصحت عنه بالتفصيل كتب تاريخ القانون؛ وبذا عرفته مختلف الحضارات لكن بصورٍ متباينة، وبدرجات مختلفة من السذاجة والنضج وهو ما أصله الفقه وعكف عليه قرونًا، وبيَّنت الدراسة أبرز أمثلته وأخص أُطره.

ثانيًا- إنَّ ما اعترض سبيل تقنين المعاملات المالية الإسلامية من معوقات متشعبة شأنٌ لم يَحل ألبتة دون وجود تقنينات متعددة المصادر متشعبة الحقب الزمنية التي خرجت خلالها للنور؛ وإلا لما كنَّا في هذا المقام إذن؛ وكأن حصيلة الموقف أن التقنينات قائمة والعراقيل ماضية والحاجة باقية.

ثالثًا- أهمية الذود عن التقنينات الإسلامية القائمة لا لكثرتها وتنوعها الموضوعي والشكلي فحسب؛ بل توطيدًا لعُرى السلسلة البحثية؛ ليُبدأ مما انتهى إليه فقهاؤنا العظام في فترات زمنية سابقة، وإلَّا فالبديل هو السير في حلقات مفرغة وإهدار الأوقات وتبديد الطموحات.

رابعًا- اتساق حلقات السلسلة البحثية اقتضى توضيحًا لأبرز التقنينات القائمة، استكمالاً لما بُدِء لا العودة من جديد، دحضًا لحجج قائمة، وكشفًا عن أبعاد أدوار الفقه والقضاء الأجنبي في إحياء التشريع الإسلامي، وفي العملية التقنينة ككل.

خامسًا- ما بين التأريخ والتعريف والمقارنة بقي الشاهد: الحاجة إلى صياغة تقنين لأحكام المعاملات المالية وتحكيمها للشريعة في صبغة قانونية، بصورة مرتبة مرقمة؛ كمرجع ييسر للقضاة، ويبصر المحامين، ويشكل في الوقت ذاته مصدرًا لتعامل واطلاع الجمهور.

سادسًا- تعدد الدواعي المعززة للحاجة للتقنين، أبرزها: تشعب المعاملات المالية المعاصرة، وتنوع العقود وصياغاتها في البلد الواحد ناهيك عن غيره من البلدان، فضلًا عما يشهده فقه المعاملات المالية من تطورات ومستجدات تظهر من حين لآخر، يرافقها كثرة الاجتهادات، وبزوغ الانفتاح متعدد الزوايا بين الكيانات المالية الإسلامية لتغدو عالمية مستدامة.

وبذلك فتشعب مزايا التقنين – على النحو الذي لا تتسع معه سطور النتيجة لطرحها – جعل السبيل الأنسب آنذاك بيان حيثيات المسألة والإشارة لأبرز مراجعها وكذا التوجهات حيالها، وازاه ردُّ الفقه البنَّاء على ما قيل في حق التقنين من عيوب؛ كالجمود أو النقص، رُدَّ عليهما بأنهما عيبان موهومان.

سابعًا- طول العهد لم ولن يُبدِّد الأهداف والرغبات التي من أجلها رأت الدراسة النور؛ والتي استُظِل معظمها بمظلة إعلاء مرتبات تطبيق الشريعة الإسلامية على المعاملات المالية الإسلامية، في وقت انتشرت فيه المعاملات غير الشرعية، وانتفى فيه العلم المفترض بهذه الأحكام أصلاً، بل حتى بالنسبة لمن يتوفر في حقِّه العلم متجاوزًا – أو بالأحرى متغاضيًا – عن تطبيق الشريعة؛ حتى أصبح الوضع بحاجة إلى تجديد النداءات المُقرَّة بالحاجة إلى تقنين عام وملزم، موجِّه ومبصِّر؛ ذي صبغة تشريعية.

ثامنًا- الاتفاق مع ما تبنَّاه بعض الفقهاء من أن تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية لا يُعد تقنينًا من الناحية الإسلامية أو الشرعية فحسب؛ فهذا وإن كان كافيًا بلا ريب، إلا أن التقنين يشمل أيضًا الناحية الإسلامية القومية؛ فالإسلام كما عبر عنه الفقه دينٌ وقومية.

تاسعًا- الاقتناع بأن التقنين يشكل وجهًا من وجوه التقدم التشريعي والتطور الفقهي، يُحصِر الخيار – وبعد جدال فقهي طويل – صوب الإقدام أو الإحجام عن تقنين الأحكام الفقهية، لا الوقوف دون اتخاذ موقف، وإن ثبت على أرض الواقع أنه لا طائل من استمرار الجدال، وأهمية الانطلاق بالمسيرة الفقهية التشريعية قدمًا نحو التقنين.

عاشرًا- لا يخفى ما لتقنين أحكام المعاملات المالية من مردود يحقق استقرار المجتمعات ويتمسك بالتشريع الإسلامي وبتطبيقه، ويوحد الأحكام الخاصة بكل معاملة، وهو ما ستكون له الآثار الإيجابية على نطاق واسع؛ كإبراز دور فقه المعاملات في الإسهام في حكم العلاقات التجارية الحديثة، مرورًا بتيسير المقارنة بين فقه المعاملات والقانون، وصولاً لتوحيد الحكم القضائي.

حادي عشر- الشريعة الإسلامية مؤهلة لتكون تقنينًا نموذجيًّا شاملاً باعتراف ضمني يسهل الاستدلال عليه من المعارضين أنفسهم، وباعتراف الأحكام القضائية المناهِضة لتطبيقه؛ لتضمُّنه قواعد قانونيةٍ اجتماعيةٍ عامة ومجرَّدة، ولقدرته على التكيُّف والتطوير.

ثاني عشر- المتأمل في الجهود التي بُذلت تحت مظلة إيجاد تقنين إسلامي يُدرك بسهولة كيف أنها قد تعددت وتنوعت؛ فهذا وإن لم يظهر منذ الوهلة الأولى لحاجته إلى مزيد من التعمق، بيد أن هذه هي عين الحقيقة؛ إذ تنوعت مصادر الجهود التي نادت بتقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية ما بين جهود مؤسسية من كيانات متخصصة، وجهود فقهية، وجهود فردية، وجهود مشتركة بين الكيانات، وضحت الدراسة مقتضياتها وأمثلتها.

ثالث عشر- قد يبدو أن التقنينات الإسلامية المذكورة قد اهتمَّ أغلبها بالمعاملات المالية فحسب؛ بيد أن الإشارة واجبة إلى أن ما ذُكر يظل مجرد أمثلة فقط، وإلا فما زلنا – رغم كثرة التقنينات – بحاجة إلى تجديد واستمرار إطلاق النداءات لاستفادة المشرعين وجمهور الباحثين منها.

رابع عشر- لتوحيد وتقنين القواعد المالية الإسلامية دورٌ غير خافٍ في تعزيز جهود المساهمة في إيجاد اتفاقية دولية بين الدول الإسلامية تساعد في صنع نظام قانوني واجب التطبيق يتغلَّب على الذرائع المقدَّمة لاستبعاد التطبيق.

2- التوصيات:

أولًا- نهيب بالمسئولين تلمُّس طرق وضع تقنينات إسلامية معاصرة تواكب ما يفرزه الواقع من مستجدات؛ كاستحداث تقنين إسلامي بيئي وتقنين إسلامي للذكاء الاصطناعي ونظيرهما؛ لما تقتضيه الحاجة، والأمر مطروح على طاولة البحث قابل للزيادة بحسب الحاجة.

ثانيًا- أهمية شحذ همم الكيانات المختصة ومعها المجامع الفقهية، بل وعموم الجامعات والباحثين للاهتمام بأصول ومتطلبات مسألة التقنين ومجالاتها وجوانبها المتعلقة ذات الصلة فقهيًّا وتشريعيًّا وقضائيًّا، اقتصاديًّا وسياسيًّا، تاريخيًّا ولغويًّا.

ثالثًا- مطلوب إعادة النظر في مُحقِّقات ربط التراث الفقهي بالواقع المالي الحالي، تدقيقًا لمدى تطبيق الاجتهاد الجماعي في قضايا فقه المعاملات المالية، يعقبه البحث عن مدى الحاجة إلى تأسيس حركة علمية فقهية ترعى الرؤى المذكورة.

رابعًا- التصدي لما يحتاجه تقنين أحكام المعاملات المالية الإسلامية من تضافر جهود وتركيز أهداف وتوحيد جهود؛ لما لها من دور في ضبط تشعُّب الاجتهادات لا تقليلاً لما بُذل من جهد، بل حرصًا على خروج التقنين في الحُلة المنشودة.

خامسًا- على الجميع أن يوقن بأن ما سيولد من رحم شريعتنا الإسلامية من تقنينات – مالية كانت أم غيرها – سيكون مُكتسبًا لخصائصها الفريدة الخالدة، مُتمتعًا بالمقومات عينها، مُنغمسًا في التوجهات ذاتها؛ وعليه نشيد بتكرار نداءات الفقهاء كيف يكون لدينا هذا الكنز المنير ونفرط فيه؟

* عن مجلة الاقتصاد الاسلامي

+974 4450 2111
info@alsayrfah.com